الأم هي الوالدة
ولا شك أن خير وصف يعبر عن الأم وعن حقيقة صلتها بطفلها في لغة العرب هو "الوالدة" وسمى الأب "الوالد" مشاكلة للأم، وسميا معا "الوالدين" على سبيل التغليب للأم الوالدة الحقيقية، أما الأب فهو في الحقيقة لم يلد، إنما ولدت امرأته. وعلى هذا الأساس سمي ابن المرأة "ولدا" لها، لأنها ولدته، وولدا لأبيه كذلك لأنها ولدته له.
فالولادة إذن أمر مهم، شعر بأهميته واضعو اللغة، وجعلوه محور التعبير عن الأمومة والأبوة والبنوة.
وما لنا نذهب بعيدا. وهذا هو القرآن الكريم يحصر حقيقة الأمومة في الولادة بنص حاسم، فيقول في تخطئة المظاهرين من نسائهم: (ما هن بأمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم).
بهذا الأسلوب الجازم الحاصر، حدد القرآن معنى الأمومة: (إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم). فلا أم في حكم القرآن إلا التي ولدت.
والخلاصة أن الأم التي لا تحمل ولا تلد كيف تسمى "أما" أو "والدة"؟ وكيف تتمتع بمزايا الأمومة دون أن تحمل أعباء الأمومة؟
وأستطيع أن أضرب هنا مثلا بارزا للعيان يوضح موقف الشرع من الأم الحقيقية.
لماذا كانت الأم أحق بالحضانة
روى أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه مني! فقال صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" (أي تتزوجي).
وهكذا أعطى الشرع حق الحضانة للأم وقدمها على الأب. وجعلها أحق بطفلها منه، لما ذكرته هذه المرأة الشاكية من أسباب وحيثيات تجعلها أحنى على الطفل وأرفق به وأصبر على حضانته من أبيه، فقد صبرت على ما هو أشد وأقسى من الحضانة، حين حملته كرها ووضعته كرها.
فما تقول هذه الأم المستحدثة إذا اختلفت مع زوجها في أمر حضانة الولد؛ وبأي منطق تستحقه وتقدم على أبيه، ولم يكن بطنها له وعاء، ولا ثديها له سقاء؟
إن قالت: إنها صاحبة البويضة التي منها خلق، فالأب كذلك صاحب الحيوان المنوي الذي لولاه ما صلحت البويضة لشيء، بل لعله هو العنصر الإيجابي النشيط المتحرك في هذه العملية، حتى إن القرآن نسب تكوين الإنسان إليه في قوله تعالى: (فلينظر الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق. يخرج من بين الصلب والترائب) فالماء الدافق هنا هو ماء الرجل.
تساؤلات
ولنا أن نسأل هنا: لماذا يفكر رجال العلم في نقل بويضة امرأة إلى رحم امرأة أخرى؟
سيجيبون: لنوفر للمرأة المحرومة من الولد، لفقدها الرحم الصالح للحمل، ما تشتاق إليه من الأطفال عن طريق أخرى صالحة للحمل.
ونود أن نقول هنا: إن الشريعة تقرر قاعدتين مهمتين تكمل إحداهما الأخرى:
الأولى: إن الضرر يزال بقدر الإمكان.
والثانية: إن الضرر لا يزال بالضرر.
ونحن إذا طبقنا هاتين القاعدتين على الواقعة التي معنا، نجد أننا نزيل ضرر امرأة -هي المحرومة من الحمل- بضرر امرأة أخرى، هي التي تحمل وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها وولادتها وعنائها. فنحن نحل مشكلة بخلق أخرى.
إن على العلم أن يتواضع ولا يحسب أن بإمكانه أن يحل كل مشكلات البشر، فإنها لا تنتهي ولن تنتهي. ولو فرض أنه حل مشكلة المرأة التي ليس لها رحم صالح، فكيف يحل مشكلة التي ليس لها مبيض صالح؟
وسؤال آخر: هل هذه هي الطريقة الوحيدة -في نظر العلم- لإزالة ضرر المرأة المحرومة من الإنجاب لعدم الرحم؟
والجواب: إن العلم الحديث نفسه بإمكانه وتطلعاته -فيما حدثني بعض الأخوة الثقات المشتغلين بالعلوم، والمطلعين على أحدث تطوراتها، وتوقعاتها، يفتح أمامنا باب الأمل لوسيلة أخرى أسلم وأفضل من الطريقة المطروحة.
هذه الوسيلة هي زرع الرحم نفسه في المرأة التي عدمته، تتمة لما بدأ به العلم ونجح فيه من زرع الكلية والقرنية وغيرهما، بل زرع القلب ذاته في تجارب معروفة ومنشورة.
احتمالات
ولقد حصر الدكتور حتحوت الصورة المسئول عنها في امرأة ذات مبيض سليم، ولكن لا رحم لها. وهي مشوقة إلى الأولاد، راغبة في الإنجاب، كأنه بهذا يثير الشفقة عليها، ويستدر العطف من أجلها.
ولكن هذا الباب إذا فتح، ما الذي يمنع أن تدخله كل ذات مال من ربات الجمال والدلال، ممن تريد أن تحافظ على رشاقتها، وأن يظل قوامها كغصن البان، لا يغير خصرها وصدرها الحمل والوضع والإرضاع. فما أيسر عليها أن تستأجر "مضيفة" تحمل لها، وتلد عنها، وترضع بدلها، وتسلم لها بعد ذلك "ولدا جاهزا" تأخذه بيضة مقشورة، ولقمة سائغة، لم يعرق لها فيه جبين، ولا تعبت لها يمين، ولا انتفض لها عرق. وصدق المثل: رب ساع لقاعد، ورب زارع لحاصد!!
وإذا كان مبيض الأنثى يفرز كل شهر قمريبويضة صالحة -بعد التلقيح- ليكون منها طفل، فليت شعري ما يمنع المرأة الثرية أو زوجة الثري أن تنجب في كل شهر طفلا مادام الإنجاب لا يكلفها حملا ولا يجشمها ولادة!!
ومعنى هذا أن المرأة الغنية تستطيع أن تكون أما لأثنى عشر ولدا في كل سنة، مادامت الأمومة هينة لينة لا تكلف أكثر من إنتاج البويضة، والبركة في "الحاضنات" أو "المضيفات" الفقيرات اللائى يقمن بدور الأمومة ومتاعبها لقاء دريهمات معدودة.
ويستطيع الرجل الثري أيضا أن يكون له جيش من الأولاد بعد أن يتزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع، يمكن لكل واحدة أن تنجب حوالي 500 خمسمائة من البنين والبنات بعدد ما تنتج من البويضات، طوال مدة تبلغ أو تتجاوز الأربعين عاما من سن البلوغ إلى سن اليأس.
والنتيجة من وراء هذا البحث أن الشريعة لا ترتاح إلى ما سمي "شتل الجنين" لما ذكرنا من آثار ضارة تترتب عليه، فهو أمر مرفوض شرعا، ممنوع فقها.
ضوابط وأحكام
بقي أن نبين الحكم فيما إذا سار العلم إلى نهاية الشوط ووقع هذا الأمر بالفعل، ولم يبال رجال العلم بمخالفة ذلك للشرائع والأخلاق.
وهنا نستطيع أن نضع الضوابط والأحكام: للتقليل من ضرره والتخفيف من شره:
يجب أن تكون "الحاضنة" امرأة ذات زوج، إذ لا يجوز أن تعرض الأبكار والأيامى للحمل بغير زواج، لما في ذلك من شبهة الفساد.
يجب أن يتم ذلك بإذن الزوج، لأن ذلك سيفوت عليه حقوقا ومصالح كثيرة، نتيجة الحمل والوضع، وإذا كان الحديث ينهى المرأة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، فكيف بحمل يشغل المرأة تسعة أشهر ونفاس قد يستغرق أربعين يوما؟
يجب أن تستوفي المرأة الحاضنة العدة من زوجها، خشية أن يكون برحمها بويضة ملقحة، فلا بد أن تضمن براءة رحمها، منعا لاختلاط الأنساب.
نفقة المرأة الحاضنة وعلاجها ورعايتها، طوال مدة الحمل والنفاس، على أب الطفل ملقح البويضة -أو وليه من بعده، لأنها تغذيه من دمها، فلا بد أن تعوض عما تفقد، وقد قال تعالى في شأن المطلقات: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) وقال في شأن المرضعات: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) -يعني الأب- ثم قال: (وعلى الوارث مثل ذلك).
جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت هنا من باب قياس الأولى، لأن هذا إرضاع وزيادة، إلا فيما يتعلق بزوج المرأة الحاضنة، فهناك في الرضاع يعتبر أبا لمن أرضعته أمه إذا كان اللبن من قبله، لأن التغيرات التي تحدث بجسم المرأة أثناء الحمل، وبعد الوضع من إدرار اللبن ونحوه بسبب الولد أو الجنين الذي كان لماء الرجل دخل أساسي في تكوينه.
أما زوج المرأة الحاضنة أو المضيفة فليس له أي علاقة بالجنين أو الوليد.
إن من حق هذه الأم الحاضنة أن ترضع وليدها إن تمسكت بذلك، فإن ترك اللبن في ثديها دون امتصاص قد يضرها جسميا، كما يضرها نفسيا، وليس من مصلحة الطفل أن يجري الله له الحليب في صدر أمه، ثم يترك عمدا ليغذى بالحليب الصناعي… وقد جعل الله الرضاع مرتبطا بالولادة فقال: (والوالدات يرضعن أولادهن).
في رأيي أن هذه الأمومة -إن حدثت- يجب أن تكون لها مزايا فوق أمومة الرضاع. ومن ذلك إيجاب نفقة هذه الأم على وليدها إذا كان قادرا واحتاجت هي إلى النفقة.
إلى الأعلى
قضية اختيار الجنس
أما قضية اختيار جنس الجنين، من ذكورة وأنوثة، فهي تصدم الحس الديني لأول وهلة وذلك لأمرين:
الأول: أن علم ما في الأرحام للخالق سبحانه، لا للخلق. قال تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد) وهو من الخمسة التي هي مفاتح الغيب المذكورة في آخر سورة لقمان (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام)
فكيف يدعي بشر أنه يعلم جنس الجنين ويتحكم فيه؟
الثاني: أن ادعاء التحكم في جنس الجنين تطاول على مشيئة الله تعالى، التي وزعت الجنسين بحكمة ومقدار، وحفظت التوازن بينهما على تطاول الدهور، واعتبر ذلك دليلا من أدلة وجود الله تعالى وعنايته بخلقه وحسن تدبيره لملكه.
يقول تعالى: (لله ملك السماوات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما، إنه عليم قدير).
ولكن لماذا لا يفسر علم ما في الأرحام بالعلم التفصيلي لكل ما يتعلق بها؟ فالله يعلم عن الجنين: أيعيش أم يموت؟ وإذا نزل حيا: أيكون ذكيا أم غبيا، ضعيفا أم قويا، سعيدا أم شقيا؟ أما البشر فأقصى ما يعلمون: أنه ذكر أو أنثى.
وكذلك يفسر عمل الإنسان في اختيار الجنس: أنه لا يخرج عن المشيئة الإلهية، بل هو تنفيذ لها. فالإنسان يفعل بقدرة الله، ويشاء بمشيئة الله (وما تشاءون إلا أن يشاء الله).
وفي ضوء هذا التفسير، قد يرخص الدين في عملية اختيار الجنس، ولكنها يجب أن تكون رخصة للضرورة أو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، وإن كان الأسلم والأولى تركها لمشيئة الله وحكمته (وربك يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة).
إلى الأعلى
تغيير المزاج
بقي ما يقال من محاولة تغيير المزاج، والتحكم في انفعالات الإنسان ونزوعه عن طريق العقاقير والأغذية ونحوها.
والحس الديني السليم يرفض هذا الوضع أيضا، لأنه يخرج بالإنسان عن طبيعته المميزة الحاكمة المختارة. ولهذا حرم الدين المسكرات والمخدرات، كما أن في ذلك تغييرا لخلق الله لم تدفع إليه ضرورة ولا حاجة.
وكل تغيير لخلق الله حرام بنص القرآن والسنة. قال تعالى في بيان وظيفة الشيطان مع الإنسان: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام، ولآمرنهم فليغيرن خلق الله، ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا).
وإذا كان الحديث النبوي قد حرم التغيير الحسي الضئيل لخلق الله تعالى، في مثل وشم الجلد، أو نمص الحواجب، أو وصل الشعر، أو فلج الأسنان، فلعن الواشمة والمستوشمة. والنامصة والمتنمصة، والواصلة والمستوصلة، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله، فكيف بتغيير أعمق وأخطر، وهو تغيير المزاج النفسي للإنسان؟
إن استعمال مثل هذا التغيير لعلاج المريض لا بأس به، من باب الضرورة، وهي تقدر بقدرها، أما استخدامه في التأثير على السليم، فهو جناية على فطرة الله بصنع الإنسان. وقد قال تعالى: (فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله).
وقد يطرح هنا سؤال، وهو: ما إذا استطاع العلم، بواسطة عقاقير ومواد معينة أن يغير من مزاج الإنسان: هل يبقى الإنسان مسئولا عن أعماله، بحيث يمدح بحسنها ويثاب عليه، ويذم بقبيحها ويعاقب عليه؟ أم انتفت مسئوليته بهذه المؤثرات، فلا فضل له إذا تعفف عن شهوة أو حلم عند غضب، ولا عقاب عليه إذا غضب وهاج فضرب أو قتل؟!
والحق: أن المسئولية لا تنتفي عن الإنسان مادام واعيا مريدا لما يفعله، فإذا انتفى الوعي والإدراك، أو القصد والإرادة أو كلاهما، فقد انتفت عنه المسئولية، وإذا انتفى قدر منهما وبقي قدر فهو مسئول بقدر ما بقي عنده من الوعي والإرادة. ولهذا جاء في الحديث: "لا طلاق ولا إغلاق" فسر بعضه الإغلاق بالغضب، وبعضهم بالإكراه، وهما من باب واحد، وهو: أن ينغلق على الإنسان تصوره وقصده.
وإذا انتفى عن الإنسان وعيه وإرادته بسبب منه وباختياره، فشأنه شأن السكران، والكلام فيه وفي مسئوليته عن أقواله وأعماله طويل الذيول.
والذي أراه أن هذه المؤثرات الصناعية مهما بلغت لن يكون أثرها أقوى من تأثير الوراثة والبيئة في سلوك الإنسان. ومع هذا لم يعف من المسئولية. فقد يرث الإنسان من أبويه أو أسرته حدة المزاج، بحيث يغضب لأتفه الأسباب، ويثور كالجمل الهائج لأدنى شيء أو لغير شيء، على حين يرث إنسان آخر طبيعة هادئة، فتنهد الدنيا من حوله وهو لا يحرك ساكنا كأن أعصابه في ثلاجة كما يقولون.
ومع هذا يذم الأول على شدة غضبه، ويحاسب على نتائجه، ولا تعفيه الوراثة من المسئولية.
كما أن الثاني يمدح بهدوئه وحلمه، وقد يذم أحيانا إذا اعتدى على حريمه أو انتهكت حرمات الله وهو ساكن. وقد قيل: من استغضب ولم يغضب فهو حمار!
ومثل ذلك تأثير البيئة الأسرية والاجتماعية في اتجاه الإنسان وسلوكه. حتى جاء في الحديث الصحيح: "كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" ومع هذا لا يعفى اليهودي أو النصراني أو المجوسي من مسئوليته عن اختيار الدين الحق، إذ ما زال له قدر من الوعي والإرادة كاف للاختيار والترجيح.
ومن ثم قال المحققون من علماء المسلمين:
إن إيمان المسلم المقلد لا يقبل، إذ لا إيمان بغير برهان.
كلمة أخيرة أوجهها لرجال العلم، هي أن يجعلوا أكبر همهم الاشتغال بما يحل مشكلات الإنسانية الكثيرة، ويخفف عن الناس متاعب الفقر والجوع الذي هلك به ألوف من الناس في عالمنا، ويعالج الكثير من الأمراض التي لا زال البشر يشكون منها ولا يجدون لها دواء. وبالله التوفيق.