س: تعلمون فضيلتكم أن من الأولاد من يكون نعمة على أبيه، ومنهم من يكون نقمة عليه، يجلب له العار في حياته، واللعنة بعد وفاته. وقد قدر الله علي أن أبتلي في أحد أبنائي من صلبي، فقد علمته وربيته حتى حصل على شهادة عليا من إحدى الجامعات العربية، ولكن للأسف حصل على الشهادة، وفقد العقيدة، فقد اعتنق المبادئ الهدامة التي يسمونها "الشيوعية"، وأصبحت هي عقيدته التي لا يؤمن بشيء سواها. وأصبحت أنا وإخوته معه في جدل دائم، حيث لا يؤمن بصلاة ولا بصيام ولا زكاة ولا حج ولا عمرة، ولا يعترف بحلال ولا حرام. أعني أننا -الأسرة كلها- أصبحنا في واد وهو -وحده- في واد آخر… بل صرنا نتحاشى الكلام معه، حتى لا نسمع منه تهكما بعقائدنا، أو سخرية بشريعتنا، وربما تطاول أكثر من ذلك.
هذا مع أننا أسرة محافظة على الدين والأخلاق أبا عن جد.
والذي أسأل عنه بالذات أمران:
الأول: هل يجوز أن يرثني هذا الابن المارق، ويكون له حظ إخوانه وأخواته، مع أني أؤمن في قرارة نفسي، وأوقن أنه لم يعد مني ولا أنا منه، بل غدوت أبرأ إلى الله سبحانه من جراءته عليه وسوء أدبه معه؟
الثاني: ما مدى مسئولية الأب عن ضلال ابنه وانحرافه؟ فإني أخشى أن يعاقبني الله تعالى على كفر هذا الكافر، الذي خان دينه وقومه، وضل ضلالا بعيدا، وصار حربا على الله ورسوله وعلى أسرته وأمته.
أرجو أن توضح الجواب عن هاتين النقطتين توضيحا، مؤيدا بالأدلة من الكتاب والسنة كعهدنا بكم.
ج : يذكرني هذا السؤال بسؤال مشابه، كان قد وجه إلي منذ أكثر من عشر سنوات، وأوجبت عنه أيضا في مجلة "الحق"، وقد نقلت الفتوى ونشرتها ببعض التصرف -مجلة "نور الإسلام" التي يصدرها "علماء الوعظ والإرشاد في القاهرة"، وإن لم ينسبها إلى المصدر الذي أخذتها عنه، كان السؤال عن زواج المسلمة من رجل شيوعي: هل يجوز في نظر الشريعة الإسلامية أم لا؟
وكان بالقطع هو بطلان زواج المسلمة من الشيوعي إذا أصر على شيوعيته، ولم يتب منها.
وقد بنينا هذه الفتوى على بيان حقيقة الشيوعية، ومناقضتها الجذرية للعقيدة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والقيم الإسلامية، وأنها مذهب مادي لا يؤمن بالله ولا بملائكته ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر، ويفسر الحياة والتاريخ تفسيرا ماديا صرفا، لا مكان فيه لله ولا للروح، وهذا أمر ثابت مقرر في فلسفة الشيوعية، ومصادرها الأصلية، ولا ينكره الشيوعيون أنفسهم، إلا إذا أرادوا الضحك على عقول السذج والبسطاء من الناس.
وهذه الأسباب نفسها هي التي تجعلنا نحكم يقينا بأن الشيوعي المصر على شيوعيته، لا حق له في أن يرث شيئا من تركة أبيه أو أمه أو زوجته أو غيرهم من أقاربه المسلمين، لأن شرط التوارث اتحاد الدين، كما بينت ذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم".
بل إن هذا ما أشار إليه القرآن نفسه حين قص علينا قصة نوح وابنه الكافر وقال نوح: (رب إن ابني من أهلي، وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح، إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، فلا تسألن ما ليس لك به علم). فقطع الصلة ما بين الولد وأبيه، ولم يعتبره من أهله، فقد فرق بينهما الإيمان والكفر.
وهذا المعنى عبر عنه الأب بوضوح وقوة حين قال: "إني أؤمن في قرارة نفسي، وأوقن أنه لم يعد مني ولا أنا منه".
وقد خالف بعض الفقهاء في ميراث المسلم من الكافر، فيجعل للمسلم أن يرث قريبه الكافر، دون العكس، لأن "الإسلام يعلو ولا يعلى"، كما جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، واستدلوا أيضا بأن الإمام عليا رضي الله عنه، وكرم الله وجهه لما قتل المسور العجلي حين ارتد، جعل ميراثه لورثته المسلمين.
وقصر ذلك بعض الفقهاء على المرتد، فإن ورثته المسلمين يرثونه، كما هو مذهب أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة، ومذهب الإمام الهادي من الزيدية، أما أبو حنيفة، فمذهبه أن ما كسبه قبل الردة فلورثته المسلمين، وما كسبه بعد الردة، فلبيت المال.
أما أن يرث المرتد من أقاربه المسلمين، فلم يقل ذلك أحد من العلماء، لأنه في نظر الإسلام في حكم الميت، ودمه مهدر، فكيف يرث غيره من المسلمين؟ وكيف يمكن من أخذ مال أهل الإسلام ليطعن به الإسلام؟
وبهذا يتبين أن الشيوعي المصر، لا يرث من أبيه ولا أمه ولا جده ولا أي قريب له مسلم بالإجماع، لأنه مرتد عن الإسلام بلا نزاع، وردته إلى الشيوعية تعد شر أنواع الكفر، لأنه لم يعد يؤمن بألوهية ولا رسالة ولا كتاب ولا آخرة (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا).
وكل هذا في الشيوعي المصر على شيوعيته، كما ذكرت غير مرة، وإنما قيدت "الشيوعي" بهذا القيد، لأن من أبنائنا من ينخدع بهذه الفلسفات الدخيلة دون أن يسبر غورها، ويدرك حقيقتها، وقد يصورها له دعاتها الماكرون بأنها مجرد دعوة لإنصاف الطبقات الكادحة، أو التقريب بين الفقراء والأغنياء، ولا علاقة لها بالأديان والعقائد.
فهذه سياستها الداخلية، أما سياستها الخارجية فتقوم على محاربة الاستعمار والامبريالية، ومساعدة الشعوب على التحرر منهما…الخ.
ولهذا يجب أن يبين لكل شيوعي مدى مناقضة الشيوعية لعقائد الإسلام وشرائعه وقرآنه وسنة نبيه، ويعطي فرصة للتوبة والرجوع إلى الرشد، فإن أصر بعد هذا البيان والتوضيح على موقفه -وأبى إلا التمسك بمبدئه- فلا يسعنا إلا الحكم عليه بالردة، بل هو الذي حكم على نفسه بذلك في الواقع.
أما مدى مسئولية الأب عن ضلال ابنه فكريا، أو انحرافه سلوكيا، فتحديد ذلك يختلف من أب إلى آخر.
فإذا كان الأب قصر في تربية ابنه في الصغر، ولم يعطه حقه من الرعاية واليقظة، وحسن الإشراف، ودوام المراقبة، والنصح بالحكمة والموعظة الحسنة، والتأديب بالرفق في موضع الرفق، وبالشدة عند موجب الشدة، وتهيئة البيئة المعينة له على الخير، وإبعاده عن الجو المساعد على الشر.. إذا قصر الأب في هذه الجوانب وأمثالها وظن أن كل ما عليه لابنه إنما هو النفقة والكسوة، ورعاية الناحية المادية في حياته فقط، دون أن يهتم بما يدور في رأسه من أفكار وفي قلبه من هواجس. فلابد أن يتحمل قدرا من المسئولية عن تفريطه في الصغر، وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته… والرجل في أهل بيته راع، وهو مسئول عن رعيته".
وعلى قدر إهماله وتقصيره تكون مسئوليته، إلا إذا تدارك ذلك بتوبة نصوح.
وإذا كان الأب قائما بكل ما ذكرنا نحو أولاده من الرعاية المادية والعقلية والنفسية -على قدر طاقته، وفي حدود وسعه- وكان حريصا على تربية أولاده تربية سليمة يرضى عنها الله ورسوله، ولكن الابن خرج من يده، وتمرد عليه واتبع الهوى، وركبه الغرور، وغره الله الغرور، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهذا بذل ما في وسعه، ولا يعاقب الإنسان إلا على ما فرط فيه، فهذا عدل الله، ولا يظلم ربك أحدا.
وقد قص علينا قصة الأب المؤمن والابن الكافر كما في قصة نوح وابنه، كما حكى لنا قصة الابن المؤمن والأب الكافر كما في قصة إبراهيم وأبيه آزر، وقص علينا قصة الزوج المؤمن والزوجة الكافرة كما في امرأة نوح وامرأة لوط، وبالعكس كما في امرأة فرعون.
والمهتدي من هؤلاء ليس معاقبا قطعا على ضلال من ضل من ابن أو أب أو زوجة أو زوج. وقد قال الله لرسوله: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).