في حفل وداع بسيط .. وبلا ضجيج أو صخب وبلا لافتات أو قصارى زرع من تلك التي تستأجرها الوزارات في المناسبات الوطنية .. وبلا أفواج من المستقبلين والمودعين التي تمتلئي بهم كل يوم شاشات التليفزيون قررت بيني وبين نفسي أن أقيم حفل وداع بسيط للراحل العظيم كوبري أبو العلا ..
ولا أدرى ما هو السر الذي يربط بيني وبين كباري القاهرة العريقة .. ابتداء بكوبري عباس وتاريخه الحافل مروراً علي كوبري الجامعة .. بكل رصيد الذكريات فيه .. ثم قصر النيل .. وصولاً إلي أبو العلا .. كلها كانت تمثل عند جيلي سنوات العمر الجميل .
شهدت أحلام صبانا عندما جئنا من أقاصي قرى مصر إلي قاهرة المعز بكل صخبها وضجيج الناس فيها .. كانت أحلامنا يومها بعرض هذا الكون اتساعا .. وكانت جميعاً أحلاماً بريئة وجريئة تسبح في عالم من المجردات .. أن نصير كتاباً .. أو شعراء .. أو أصحاب فكر وقضايا .. آن تكون لدينا مكتبة فيها أحدث ما أخرجت المطابع .. إن نرى النيل أكثر شموخاً ..
وان نرى الوطن أكثر جلالاً .. وان نرى الأرض أكثر عطاء .. وأن نرى الناس أكثر رقياً .. كنا بسطاء .. وكانت الحياة بسيطة مثل أحلامنا ، قوية مثل عزائمنا .
حمل كوبري أبو العلا كثيرا من ذكريات شبابنا .. مشينا عليه ونحن نردد " هلت ليالي القمر " .. " يا للي كان يشجيك أنيني "
.." غلبت أصالح في روحي " .. ومعه عشنا أجمل لحظات عمرنا مع صوت أم كلثوم .
وفيه غنينا النهر الخالد .. والجندول وهمسة حائرة .. وطفنا مع عبد الوهاب .
ثم كانت الليالي .. وفي يوم في شهر في سنة وصافيني مرة .. ونغني والمغني يطول مع العندليب ..ومع كوبري أبو العلا كانت الأحداث العظيمة في حياتنا .. وكانت أيضاً الجراح العميقة .. علي كل المستويات في السياسة .. وفي الحلم .. وفي الحب ..
مشينا عليه ونحن نردد هتافات الثورة في أمجادها .. وبكينا عليه ونحن نداوى جراحها وجراحنا في انكسارها .. وشاهدنا عليه وجوهاً كثيرة .. من أخذ بيدنا .. ومن نصب علينا .. ومن باع لنا " الترماى " رغم أننا نقف في منتصف النهر العريق ..
وحملت مياه النهر هؤلاء جميعاً .. من أعطي .. ومن تخاذل.. ومن نهب .. ومن باع .. وبقي النيل شامخاً شاهداً علي كل العصور .. كانت هذه الأفكار جميعها تدور في رأسي وأنا اقترب من مايسبيرو .. ونظرت للتليفزيون .. وكدت اصرخ في أحد العاملين فيه أن يأتي ومعه كاميرا صغيرة ليسجل اللحظات الأخيرة في عمر كوبري أبو العلا .. بمقياس الحضارة .. هو يستحق أن نسجل لحظاته الأخيرة ونحن شعب كان يوما يدرك قيمة الحضارة .. بمقياس الذكريات .. آه من تلال الذكريات التي مرت علي هذا الكوبري خلال مائة عام .. أنها تاريخ مصر الحديث بكل الضوء فيه والظلال ..
بمقياس الجوار .. إن المسافة بين التليفزيون وكوبري أبو العلا قليلة جداً .. وكم شهد هذا الكوبري مرور الفنانين والكتاب الكبار وهم في طريقهم إلي مبني التليفزيون حيث التألق والبريق والثقافة .
ولم أحاول أن أزعج أحدا في التليفزيون في هذا الوقت المتأخر من الليل .. ونظرت إلي مبني وزارة الخارجية .. وقلت لنفسي لو أن السيد عمرو موسي في مكتبه الآن لطلبت منه أن يذهب معي لنودع معاً كوبري أبو العلا فهو رجل عاشق للتاريخ .. والحضارة .. ويدرك أقدار الناس والأشياء .. وحينما اقتربت من الكوبري وجدت دمعتين حائرتين في عيني .. هناك مسطح عريض من الخشب الأبيض يلف المكان وتغيرت حركة المرور ولم يعد احد يقترب من الكوبري العريق الذي راح في صمت مهيب .. وكان الخشب الأبيض يغطي وجه الكوبري وكأنه الكفن الذي يغطي جسد الميت .. واقتربت قليلاً وكل شيء في كياني يرتجف .
قلت للكوبري اعرف أنها لحظات صعبة .. ولكنني كنت حريصاً أن أودعك ..لقد عشت معك أجمل لحظات العمر أحلاماً وجمالاً وشموخاً .. وأنا حزين أن أراك هكذا يحيط بك الصمت من كل مكان .. قال : إنني حزين أن أودع هؤلاء البسطاء الذين كنت احملهم علي كتفي كل صباح يعبرون من هنا لهنآك .. التلاميذ الصغار الذين كنت احتضنهم واحميهم من السيارات المجنونة .. وأصحاب " البسكلتات " من حاملي الألبان وهم يسرعون بحثاً عن الرزق .. والبوابين والعمال .. لا أدرى أين يذهب هؤلاء .. إنني أقدر قرار الحكومة .. فلكل أجل كتاب .. ولكن .. ألم يكن هناك طريق آخر غير التضحية بي .. حملت علي أكتافي كل مشاكل هذه العاصمة مائة عام .. وكنت أستطيع مائة عام أخرى .. عندما جاء الزلزال اقترب مني قليلاً ..وصرخت فيه .. انك لن تستطيع أن تفعل معي شيئاً .. ولم يفعل أي شيء .. حتى الزلزال الأخير نظرت إليه ساخراً وضحكت وفي خجل عبر .. قلت : وما الذي يحزنك الآن .. قال : ما اسمعه عن شقيقي الذي يسكن في باريس علي نهر السين وكل ما يلقاه هناك من الرعاية والتقدير .. عندما ولدنا معاً منذ ما يقرب من مائة عام كان شقيقي يتفاخر ويقول لي سأكون في باريس .. وكنت أشهد منه فخراً وأنا أقول له .. سأكون في القاهرة .. اعرق عواصم الكون .. يكفي أنني سأكون بجوار الأهرامات بكل جلالها وشموخها سأعيش مثلها ولن يكفيني ألف عام .. ولم أكن يومها أعرف أنني لن أعيش بينكم طويلاً..
كانت رسائل شقيقي من باريس تؤلمني .. كان يقول : بالأمس زينوا جزءاً مني بالذهب .. وقرروا صرف ملايين الفرنكات لصيانتي .. وهناك مئات من الأشجار تحيط بي من كل جانب .. وفي آخر رسالة قال لي أنهم يحترمونني كثيراً في باريس .. وتوقفت عن كلمة الاحترام .. وبكيت .. واقتربت من الكوبري وأنا أحاول أن اخفف مشاعر حزنه ووجدته ينظر إلي ويقول .. لا أنكر إنني عشت زماناً جميلاً .. شاهدت عصوراً شامخة .. وحملت شخصيات مهمة في تاريخ هذا البلد .. ولكن كيف يفضلون علي كوبري من الأسمنت " المضروب " هذه الإهانة لا أدرى كيف رضيتها لنفسي .. الموازين اختلت في هذا البلد .. لقد عشت زمناً جميلاً هنا .. من اسعد اللحظات التي كنت أعيشها عندما تعود أم كلثوم من حفلتها واسمعها منتشية تدندن بآخر أغنياتها وهي تتجه بعد منتصف الليل إلي فيلتها في شارع أبو الفدا . وفي أحيان كثيرة كان عبد الوهاب يترك سيارته ويتوقف معي في هذا المكان .. ليغني للنهر الخالد .. وعندما غني العندليب " يا حلو يا اسمر " شكرته لأنني اعتبرت تقديره للنيل تقديراً لي .. ومنذ سنوات وأنا اشعر أن نهايتي اقتربت كلما سقط رمز من الرموز العظيمة في مصر .. ولهذا لم تكن النهاية غريبة .
شعرت بذلك عندما احترقت دار الأوبرا منذ سنوات .. وشعرت بذلك أيضاً عندما احترق قصر الجوهرة .. وتأكدت من ذلك عندما وجدت ملامح النيل العريق تختفي وسط غابات من الأبراج السكنية المشوهة والقبيحة وكنت أقول إذا كان النيل قد هان عليهم بهذه الصورة فأين أنت من النيل . وأدركت ان نهايتي اقتربت عندما علمت أن أكثر من ألف قصر قد تم هدمها في القاهرة وحدها في ثلاث سنوات .. كنت اعلم أن نهايتي اقتربت وأنا اسمع هذه الغربان الشيطانية التي تغني ويسمعها الناس .. وكنت أتساءل أين أغنيات أم كلثوم وأين روائع عبد الوهاب والسنباطي ورامي والقصبجي ومأمون الشناوي .. كنت أعلم أن نهايتي اقتربت ومساحات القبح تحاصرني .. أخلاق الناس تغيرت .. وطباعهم ساءت .. في الأسبوع الماضي قرأت في الصحف أن الشرطة عثرت علي تمثال كبير لأبو الهول في صندوق قمامة .. وحمدت الله أن مصيري أفضل من مصير أبو الهول فما زلت أجلس علي شاطئي النيل . في كل يوم تظهر فضيحة جديدة حول آثارنا .. لقد أصبحنا حديث العالم عصابات في لندن والسويد وايطاليا وسويسرا وكندا .. وجميعها تتاجر في تاريخنا العريق .. أن اللصوص الآن ينامون في متاحفنا .. ورفات ملوكنا يتاجر فيها المغامرون والسماسرة في كل بلاد العالم . وما حدث معي حدث مع الآثار وحدث مع القصور .. وحدث مع الفنون .. وحدث في أخلاق الناس وسلوكياتهم .. قلت وما هو الحل .. قال المشكلة ليست في العمارات والمباني والكباري لأن بناءها هو الأسهل .. ولكن المشكلة هي بناء الإنسان ضميراً وسلوكاً وأخلاقا حينما يموت ضمير الإنسان يموت كل شيء معه ولكي نبدأ لا بد أن نغرس في أبنائنا من جديد قيمة الضمير لكي يحبوا وطنهم ويؤمنوا بقيمة كل ذرة تراب فيه ..
حينما هان علينا ماء النيل لوثناه .. وحينما هانت علينا شواطئه أقمنا عليها أشباحا خرسانية .. وعندما هان التاريخ هانت علينا رموزه .
وحينما هان وجدان الناس استباحهم الفن الهابط .. وحينما فرطتم في القيمة .. هدمتم القصور وشوهتم الحدائق .. ولهذا لن يكون غريباً ان تجئي نهايتي وأنا في كامل عافيتي .. وضعت وردة صغيرة علي كوبري أبو العلا .. ونظرت إليه نظرة وداع أخيرة ...
وبكيت ....!!!!*
: : كتبه :
محمد أحمد
ت / 0169890181
: