اعلم رحمك الله بأنَّ شرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أسباب الضلال، كما أنَّ شرحه من أجلِّ النِّعم ، وتضييقه من أعظم النِّقم ، فالمؤمن مشروح الصدر منفسحه في هذه الدار على ما ناله من مكروهها ، وإذا قوي الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان على مكارهها أشرح صدراً منه على شهواتها ومحابها ، فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصل له بفراقها أعظم بكثير ، كحال من خرج من سجن ضيق إلى فضاء واسع موافق له ، فإنها سجن المؤمن ، فإذا بعثه الله يوم القيامة ، رأى من انشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه ، فشرح الصدر كما أنَّه سبب الهداية فهو أصل كلِّ نعمة ، وأساس كلِّ خير .
وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمران ربَّه أن يشرح له صدره ، لماَّ علم أنَّه لا يتمكن من تبليغ رسالته ، والقيام بأعبائها إلا إذا شرح له صدره ، وقد عدد سبحانه من نعمه على خاتم أنبيائه ورسله شَرْح صدره له ، وأخبر عن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام .
فإن قلت : فما الأسباب التي تشرح الصدر ، والتي تضيقه ؟
فأعظم أسباب شرح الصدر : التوحيدُ وعلى حسب كماله ، وقوته ، وزيادته يكونُ انشراحُ صدرصاحبه . قال الله تعالى : ((أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ))[ الزمر : 22 ] . وقال تعالى : (( فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ )) [ الأنعام : 125] .
فالهُدى والتوحيدُ مِن أعظم أسبابِ شرح الصدر ، والشِّركُ والضَّلال مِن أعظم أسبابِ ضِيقِ الصَّدرِ وانحراجِه .
ومنها : النورُ الذي يقذِفُه الله في قلب العبد، وهو نورُ الإيمان، فإنه يشرَحُ الصدر ويُوسِّعه ، ويُفْرِحُ القلبَ . فإذا فُقِدَ هذا النور من قلب العبد ، ضاقَ وحَرِجَ ، وصار في أضيق سجنٍ وأصعبه .فنصيب العبد من انشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور .
ومنها : العلم ، فإنه يشرح الصدر ، ويوسِّعه حتى يكون أَوسعَ من الدنيا ، والجهلُ يورثه الضِّيق والحَصْر والحبس ، فكلما اتَّسع علمُ العبد ، انشرح صدره واتسع ، وليس هذا لكل عِلم ، بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلمُ النافع ، فأهلُه أشرحُ الناس صدراً ، وأوسعهم قلوباً وأحسنُهم أخلاقاً ، وأطيبُهم عيشاً .
ومنها : الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى ،ومحبتُه بكلِّ القلب، والإقبالُ عليه ، والتنعُّم بعبادته ، فلا شيء أشرحُ لصدر العبد من ذلك . حتى إنه ليقولُ أحياناً : إن كنتُ في الجنة في مثل هذه الحالة ، فإني إذاً في عيش طيب . وللمحبة تأثيرٌ عجيبٌ في انشراح الصدر ، وطيبِ النفس ، ونعيم القلب ، لا يعرفه إلا من له حِسٌّ به ، وكلَّما كانت المحبَّة أقوى وأشدَّ ، كان الصدرُ أفسحَ وأشرحَ ، ولا يَضيق إلا عند رؤية البطَّالين الفارِغين من هذا الشأن ، فرؤيتُهم قذَى عينه ، ومخالطُتهم حُمَّى روحه .
ومِنْ أعظم أَسباب ضيق الصدر : الإعراضُ عن الله تعالى ، وتعلُّقُ القلب بغيره ، والغفلةُ عن ذِكره ، ومحبةُ سواه ، فإن من أحبَّ شيئاً غيرَ الله ، عُذِّبَ به ، وسُجِنَ قلبُه في محبة ذلك الغير ، فما في الأرض أشقى منه ، ولا أكسف بالاً ، ولا أنكد عيشاً ، ولا أتعب قلبا ، فهما محبتان ، محبة هي جنة الدنيا ، وسرور النفس ، ولذةُ القلب ، ونعيم الروح ، وغذاؤها ، ودواؤُها ، بل حياتُها وقُرَّةُ عينها ، وهي محبةُ الله وحدَه بكُلِّ القلب ، وانجذابُ قوى الميل ، والإرادة ، والمحبة كلِّها إليه . ومحبةٌ هي عذاب الروح ، وغمُّ النفس ، سِجْنُ القلب ، وضِيقُ الصدر ، وهي سببُ الألم والنكد والعناء وهي محبة ما سواه سبحانه .
ومن أسباب شرح الصدر : دوامُ ذِكره على كُلِّ حال ، وفي كُلِّ موطن ، فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر ، ونعيم القلب ، وللغفلة تأثيرٌ عجيب في ضِيقه وحبسه وعذابه .
ومنها : الإحسانُ إلى الخلق ونفعُهم بما يمكنه من المال ، والجاهِ ، والنفع بالبدن ، وأنواع الإحسان ، فإن الكريم المحسنَ أشرحُ الناس صدراً ، وأطيبُهم نفساً ، وأنعمُهم قلباً والبخيلُ الذي ليس فيه إحسان أضيقُ الناسِ صدراً ، وأنكدُهم عيشاً ، وأعظمُهم همَّاً وغمَّاً . وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً للبخيل والمتصدِّق فقال : (مَثلُ البخيلِ والمنفق كمثل رجلينِ عليهما جنتانِ من حديدٍ من ثدِيِّهما إلى تراقِيهِما ، فأما المنفقُ ، فلا يُنفقُ إلا سَبغتْ أو وفرت على جلدهِ حتى تخفيَ بَنانهُ وتعفوَ أثرَه ، وأما البخيلُ ، فلا يريدُ أنْ ينفقَ شيئاً إلا لَزِقت كلُّ حلقة كل مكانه ، فهو يُوسعها ، فلا تتسعُ ) . أخرجه البخاري 3/241 ، 242 ومسلم (1021) من حديث أبي هريرة . قال الخطابي : وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدق ، فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما لبس درع يستتر به من سلاح عدوه ، فصبها على رأسه ليلبسها ، والدرع أول ما يقع على الرأس إلى الثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميهما فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة ، فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه ، وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه ، فكلما أراد لبسها اجتمعت إلى عنقه ، فلزقت ترقوته ، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره ، وطابت نفسه ، وتوسعت في الإنفاق ، والبخيل إذا حدثه بها ، شحت بها ، فضاق صدره ، وانقبضت يداه . فهذا مَثَلُ انشِراحِ صدر المؤمن المتصدِّق ، وانفساح قلبه ، ومثلُ ضِيقِ صدر البخيل وانحصارِ قلبه .
ومنها : الشجاعة ، فإن الشجاع منشرح الصدر ، واسع البطان ، متِّسعُ القلب ، والجبانُ : أضيق الناس صدراً ، وأحصرُهم قلباً ، لا فرحة له ولا سرور ، ولا لذة له ، ولا نعيم إلا منْ جنس ما للحيوان البهيمي ، وأما سرور الروح ، ولذتُها ، ونعيمُها ، وابتهاجُها ، فمحرَّمٌ على كل جبان ، كما هو محرَّم علىكل بخيلٍ ، وعلىكُلِّ مُعرِض عن الله سبحانه ، غافلٍ عن ذِكره ، جاهلٍ به وبأسمائه تعالى وصفاته ، ودِينه ، متعلق القلبِ بغيره . وإن هذا النعيم والسرور، يصير في القبر رياضاً وجنة ، وذلك الضيقُ والحصر، ينقلبُ في القبر عذاباً وسجناً .فحال العبد في القبر،كحال القلب في الصدر ، نعيماً وعذاباً وسجناً وانطلاقاً ، ولا عبرةَ بانشراح صدر هذا لعارض ، ولا بضيقِ صدرِ هذا لعارض فإن العوارِضَ تزولُ بزوال أسبابها ، وإنما المعوَّلُ على الصِّفة التي قامت بالقلب توجب انشراحه وحبسه ، فهي الميزان والله المستعان .
ومنها بل من أعظمها :إخراجُ دَغَلِ القَلْبِ من الصفات المذمومة التي تُوجب ضيقه وعذابه ، وتحولُ بينه وبين حصول البُرء ، فإن الإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرحُ صدره ، ولم يُخرِجْ تلك الأوصافَ المذمومة من قلبه ، لم يحظَ مِن انشراح صدره بطائل ، وغايته أن يكون له مادتان تعتوِرَانِ على قلبه ، وهو للمادة الغالبة عليه منهما .
ومنها : تركُ فضولِ النظر ، والكلام ، والاستماع ، والمخالطةِ ، والأكل ، والنوم ، فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلاماً وغموماً ،وهموماً في القلب ، تحصُرُه ، وتحبِسه ، وتضيِّقهُ ، ويتعذَّبُ بها ، بل غالِبُ عذابِ الدنيا والآخرة منها ، فلا إله إلا اللهُ ما أضيقَ صدرَ من ضرب في كل آفةٍ من هذه الآفات بسهم ، وما أنكَدَ عيشَه ، وما أسوأ حاله ، وما أشدَّ حصرَ قلبه ، ولا إله إلا الله ، ما أنعمَ عيشَ مَنْ ضرب في كل خَصلةٍ من تلك الخصال المحمودة بسهم ، وكانت همتُّه دائرةً عليها ، حائمةً حولها ، فلهذا نصيب وافر مِنْ قوله تعالى : ((إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) [ الانفطار : 13 ] ولِذلك نصيب وافر من قوله تعالى : ((وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)) [ الانفطار : 14 ] ، وبينهما مراتبُ متفوتة لا يُحصيها إلا اللهُ تبارك وتعالى .
والمقصود : أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان أكملَ الخلق في كلِّ صفة يحصل بها انشراحُ الصدر، واتِّساعُ القلب ، وقُرةُ العين ، وحياةُ الروح ، فهو أكملُ الخلق في هذا الشرح والحياة ، وقُرَّةِ العين مع ما خُصَّ به من الشرح الحِسِّيِّ ، وأكملُ الخلق متابعة له ، أكملُهم انشراحاً ولذة وقرة عين ، وعلى حسب متابعته ينالُ العبد من انشراح صدره ، وقُرة عينه ، ولذة روحه ما ينال فهو صلى الله عليه وسلم في ذروة الكمال مِن شرح الصدر، ورفع الذكر، ووضع الوِزر ، ولأتباعه من ذلك بحسب نصيبهم من اتِّباعه ، والله المستعانُ .
وهكذا لأتباعه نصيبٌ من حفظ الله لهم ، وعصمتِه إياهم، ودفاعِه عنهم، وإعزازه لهم ، ونصرِه لهم ، بحسب نصيبهم من المتابعة ، فمستقِلٌّ ، ومستكثِر . فمن وجد خيراً ، فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنَّ إلا نفسه